الحِدادُ كمشهد
شاهدت فيلم على مرمى حجر للمخرجة رزان الصلاح لأول مرة أثناء عرضه في مهرجان "برِزماتِك غراوند" في مدينة نيويورك. كنت برفقة صديقتي، جلسنا في الصالة ومعنا بعض الأطعمة الخفيفة والمشروبات، ننتظر بترقب أن تبدأ الأفلام. لمحت رزان تتحدث مع أصدقاء في الممر، ثم تقدَّمت نحوي لتجلس في المقعد الشاغر بجانبي—كانت تنوي في الأصل الجلوس إلى جانب مشرفتها السابقة في الدراسات العليا، لكن الحظ حالفني وجلست بجواري. مشاهدة الفيلم بجانب رزان أضفت على التجربة طابعاً خاصاً وعاطفياً، وكأنني أراه بعينيها.
أشارك هذه التجربة لأنني اكتشفت أن حكاياتنا متشابهة بشكل لافت، وسرديات الهجرة في عائلاتنا تسير على خطين متوازيين. كانت تجربة مشاهدة الفيلم مشحونة بجاذبية خاصة، وكأنها تسحبني إلى عالم لا يعرفه إلا من حلُم، وغنّى، ورقص، وناضل من أجل هذه الأرض. نحن فلسطينيتان تحبان السينما وتعيشان تبعات ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولم يكن هناك لحظة أعمق من هذه لتعزيز هذا الإحساس الذي يسكن قلبي، ذلك الشعور بقوة جمعية تربط بيننا نحن الفلسطينيين/ات، قوة تتشكل من علاقاتنا، سواء كنا نعرف بعضنا بشكل شخصي أم لا، ومن حبنا العميق لأرضنا، سواء زرناها أم لا. أحسست أن بيني وبين رزان فهماً مشتركاً، خُلق في هذه اللحظات من الصمت والدموع، ونحن نشاهد فيلمها البديع.
شعرت أن الرابط بيننا ازداد عمقاً من خلال هذا الفهم المشترك لحزن كلٍّ منا، وهو تواصل لا يمكن أن يُحَس لولا أننا كنا نجلس جنباً إلى جنب. طوال العرض، كنت أختبر نوعاً من اليقظة الوجدانية، وأنا أجلس في فضائي المعماري المفضل (صالة السينما)، إلى جانب شخص بالكاد أعرفه، لكنه بدا مألوفاً بشكل غريب. وبعد أشهر، حين بدأت بكتابة هذا النص، أدركت شيئًا: إن كان صانعو/ات الأفلام هم شعراء الضوء، وكان الضوء هو من يمنح الصورة ولادتها، فإن الحزن هو الإطار الذي يجرؤ فيه الضوء على الحلم.
في ذلك اليوم، كان هناك شيء ينبض بالحياة داخل قاعة السينما، وكأنه امتداد للفيلم ذاته—وكأن إطار الشاشة قد تلاشى، لتتسلل روح الصور خارجه وتنبض في الفراغ الذي يفصل بيننا. ربما كان ذلك هو أثر الحكي—فعل سرد حكاية التحرر من خلال تراكم طبقات من الصور، وعبر قصة تمرّد—ذلك الفعل الذي أذاب الحدود التي كادت أن تفصل بيننا منذ زمن بعيد، حتى قبل أن نولد.
جلست مع رزان في تشرين الثاني/ديسمبر، وتبادلنا الحديث عبر الشاشات كلّ من منزلها. استمر حديثنا لأكثر من ساعة، وتناولنا مواضيع عديدة مثل مسؤولية التمثيل وما يترتب عليها، والتناقض الفظّ بين المادي والمجرد، والقيود والأساسيات التي تحرك العملية الإبداعية، وحركة الماء كقوة مناهضة للاستعمار، وتقنية سينمائية لم أكن قد سمعت بها من قبل، ومحو الحدود من خلال الصورة، وعن الجسد كأرض. تحدثنا عن الكثير من الأمور. وفي خضمّ حديثنا، شعرت ببوادر ظهور لغة كانت قديمة في الذاكرة، لغة ترفض التفريق وتعترف بالروابط الخفيّة، لغة وُلدت من مستقبل عرفناه مسبقاً.
تحدثنا عن صوت الماء، وعن البصمات الضوئية للنبات وكيف يضعنا المشهد الافتتاحي مباشرة أمام ملموسية الضوء وتحوّلات السيلولويد كعملية قائمة بحد ذاتها. من هناك، نؤخذ في جولة عبر شوارع بيروت، تليها جولة بصرية فوق خريطة أبوظبي. تستخدم رزان تقنيات الخرائط لتضعنا في عدّة جغرافيات، لكن بأسلوب يُليّن قسوة العين الميكانيكية الحيادية. وعن هذا التليين، تقول رزان:
كانت مقاربتي الأولى لدراسة الصور مادية أكثر من اللازم، مهووسة بالصورة نفسها وبإطارها، إلى درجة لم تترك أي مجال للتنفس. أين المساحة في الصورة؟ أين الممر للهروب؟ أين الخلل؟ أين الشرخ؟ بدأت أُصغي أكثر لـ أمين، والدي وبطل الفيلم، وأحاول أن أعي ما كان يحاول قوله لي. قال لي ذات مرة: "أتذكّر حيفا كماء." وأضاف: "في تلك الجزيرة، بعد نوبة عمل تحت الشمس تمتد لـ 12 ساعة، كنت أرمي جسدي في البحر." نشأتُ في بيروت، وكنت دوماً أنظر نحو الأفق وأفكر بما حكاه لي أبي عن حيفا والماء. بطريقة ما، بدأت أتخيل الأفق كمساحة احتمالية، حيث عينيه من حيفا تلتقيان بعينيّ من بيروت.
مشاهدة فيلم على مرمى حجر عمّقت حبي للسينما، ولقدرتها على أن تعيدنا إلى أجسادنا، وما يعنيه ذلك من عودة إلى أرضنا. وبنفس الإصرار، أعود إلى فضيلة غرسها والداي في داخلي منذ الطفولة: لا تنسِ أبداً من أين أتيتِ. وبينما أواصل اختبار دوائر العنف الاستعماري، بات التذكّر لا يعني فقط استحضار القصص أو الحفاظ على حدّة الذاكرة؛ بل هو إدراك عميق لمدى تجذر هذا الإحساس في خلايانا. وفي أماكن مثل صالات السينما، أجد نفسي أستعيد هذا الإحساس، وأشعر به حيّاً في جسدي. قلت لرازان: "علينا أن نُبقي هذا الإحساس متقداً"، ووصفتُه بأنه إحساس لا مادي، لكنه شديد التجسد في الوقت نفسه—تلك المفارقة التي كانت رزان نفسها قد وصفتها عندما شرحت لي الأساس الذي انطلقت منه عمليتها الإبداعية.
تنتقد رازَان تطرف النزعة الواقعية (الوضعية) والتجريدية، وتقترح أن تجاوز هذا الانقسام قد يتيح لنا إعادة تشكيل هذه القوى بعيون مختلفة. قالت لي: "أنتِ محقّة… الجسد كالأرض. وفي كل مرة يعرض فيها الفيلم، يأتي أشخاص ليقولوا لي إنهم شعروا وكأنهم قادرون على لمس الصورة." وتتابع شارحةً كيف أن المساحات السينمائية التي نفصل فيها أنفسنا بالكامل عن الواقع—مثل خرائط غوغل أو صور الأقمار الصناعية—تُصاغ بصرياً لتبدو غامرة ومادية، لكنها تنتهي إلى العكس: تولِّد بُعداً ونظرة تكاد تكون إلهية. تعلّق قائلة: "هذا النوع من المقاربات يحمل في جوهره نزعة استعمارية." ثم تضيف: "التجسّد الحقيقي لا يمكن أن يتحقق عندما تكون علاقتنا بالصور أو بالأرض ميكانيكية، قائمة على الاستخلاص والتشييء."
تقول رزان: "الإيمان بصيرورة الأمور"، مشيرة إلى مخرج من العقلية الاستعمارية التي تُحدّد مسبقاً رؤية ما يمكن أن يؤدي إليه شيء ما، مثلما يحدث في مسح الأراضي. هذا الإيقاع السلس الشبيه بالماء في فيلم على مرمى حجر، ينبعث ليس فقط من الأصوات ولكن أيضاً من طريقة التركيب البصرية، يجعلنا نشعر وكأننا نستطيع لمس الصورة. وليس هذا فحسب؛ بل يقودنا إلى عالم يفتح أبواب الحركة بلا حدود، مقاطعاً بين عدة مسارات تدمج قصة أمين عن الهجرة، والبقاء، والثبات، وحبه لحيفا—حيفا التي يتذكرها كالماء—إلى مشاهد من انتهاك الحدود، والاحتلال، والثورة.
"أتعلم أن أستمع أكثر إلى والدي لأن هذه هي المرة الأولى التي أعمل فيها مع شخصية رئيسية في فيلم. كما أنني أُولي اهتماماً خاصة للغة جسده، فهناك الكثير مما يقال من طريقة حديثه. هناك شيء غنائي وشعري في الطريقة التي يشارك بها قصصه—جسده وحركاته يخبران شيئاً مختلفاً. مراقبتي له أثناء تجواله في المدينة جعلتني أدرك ذلك، ومن هناك تعلمت أنه يجب عليّ أن أحمل الكاميرا وأبدأ في التصوير، فذلك أيضاً هو شكل آخر من الدخول في مساحة الآخر."
ترجمة رجا سليم